يبدو أن شيري بلير، زوجة رئيس الوزراء البريطاني، تتمتع بجرأة لا تناسب زوجات المسؤولين. ليس لأنها تجرأت على الإسلام في لقائها مع الصحافيات الهنديات، بل لأنها تجرأت على الإسرائيليين من قبل! فـ"حيط" الإسلام واطئ يسمح لأي كان أن يتجرأ، خلافا لـ"حيط" إسرائيل. فتلك دولة تملك شبكة نفوذ عسكري ومالي وسياسي... كفيلة بالدفاع عن اليهودية، ليس معتقدا فقط وإنما تاريخا وسياسة. فمن يجرؤ من الغربيين، بمن فيهم شيري بلير، ليس على إنكار الهولوكوست، بل مناقشة المبالغة فيه، والاستخدام السياسي للمعاناة.
أنا أؤمن بالمحرقة(الهولوكوست)، ليس خوفا من النفوذ الصهيوني، لكن لأنها حقيقة تاريخية. صحيح أن ثمة مبالغة في الأرقام، واستخدام سياسي فظ للمعاناة الإنسانية، إلى درجة حولت الضحية إلى جلاد، بحيث غدا الهولوكوست الفلسطيني حقيقة تاريخية أخرى.
شيري تجرأت على الإسرائيليين ثم اعتذرت، وهذا المأمول منها معنا. فبعد عملية القدس قبل ثلاث سنوات، والتي قتل فيها تسعة عشر إسرائيليا عندما فجر فلسطيني نفسه في مطعم، قالت السيدة الأولى في بريطانيا: "إن الشباب الفلسطيني يشعر بفقدان الأمل واليأس لدرجة أنه لا يجد أمامه سوى تفجير نفسه".
وقد جاءت هذه التصريحات أثناء حضور السيدة بلير حفلا خيريا أقيم في لندن لتدشين مناشدة على الإنترنت لتقديم المساعدات الطبية والأغذية للمتضررين في الحروب، والبيئات التي يهيمن عليها العنف. وقالت شيري بلير للصحافيين: "إنه طالما استمر الشباب يشعر بفقدان الأمل، وانه ليس أمامه سوى أن يفجر نفسه، فلن يمكن تحقيق أي تقدم".
بيد أن الاحتجاجات الإسرائيلية دفعت شيري إلى الاعتذار، فالسفارة الإسرائيلية في لندن قالت إنها تشعر بالأسف لتصريحات السيدة بلير، مشيرة إلى أنه ليس هناك ما يبرر استهداف المدنيين لتحقيق مكاسب سياسية. وبعد ذلك، أصدرت شيري بلير بيانا أعربت فيه عن" أسفها إذا كانت تصريحاتها قد فسرت بصورة تسبب إيذاء لمشاعر أي طرف". وقالت: إنها تدين الفظائع التي ارتكبت اليوم، وإنها تدين العمليات الانتحارية.
صحيفة التايمز نقلت عن شيري بلير ان بعض المجتمعات الاسلامية تتعامل مع المرأة بطريقة تتنافى مع التطور الذي يشهده العالم. وقالت خلال لقائها مع عدد من الصحافيات الهنديات، اثناء مرافقتها لزوجها توني بلير في زيارته الحالية للهند: انه يجب ان يعيد القائمون على تدريس تعاليم الدين الاسلامي النظر في تداول وضع المرأة في الفصول الدراسية.
وتوقعت الصحيفة ان تتعرض شيري لانتقادات حادة من قبل جمعيات اسلامية في الهند وخارجها، بسبب تلك التعليقات. واوضحت الصحيفة ان شيري قالت خلال الغداء الخاص مع الصحافيات: انها كمسيحية منبهرة بالاسلام، وانها ترى ان هناك جوانب جيدة عديدة فيه. وحسب الصحيفة، فإن بلير رفض التعليق على تصريحات زوجته.
الإسلام جزء من الحضارة البشرية، ولا يمكن استثناؤه من النقاشات والسجالات الفكرية بخصوص المرأة وغيرها، لكن ثمة حساسيات لمليار مسلم يفترض بالسيدة الأولى في بريطانيا احترامها. فهي ليست باحثة في جامعة تقدم أطروحة، بل زوجة مسؤول تحتل قواته جنوب العراق، ومن بلد فجر فتيان مسلمون أنفسهم غضبا على سياساتها. كما أنها تتحدث في بلد تعاني الأقلية المسلمة فيه (أكثر من مائة مليون مسلم في الهند) من الاضطهاد، وتحتل حكومته أرض كشمير، التي أعطتها الأمم المتحدة حق تقرير المصير قبل أكثر من نصف قرن!
فوق ذلك، عليها أن تكون عادلة في النقاش؛ فوضع المرأة في الإسلام (وفق المعايير الليبرالية الغربية) أفضل من وضعها في المسيحية واليهودية والهندوسية وغيرها، ومع ذلك وصلت المرأة في بريطانيا والدولة العبرية والهند إلى موقع رئيس وزراء؛ أي أن المسألة لا علاقة لها بالدين، بقدر ما لها علاقة بالتطور الاجتماعي والاقتصادي.
ثمة قضايا في الهند أكثر إلحاحا كان يمكن للسيدة البريطانية الأولى التطرق إليها؛ فثمة طبقات من عشرات الملايين، ذكورا وإناثا، لا يحق لهم أن يرتقوا إلى مستوى البشر لأنهم منبوذون! وفي الهند، لم يقتل المسلمون أنديرا غاندي ولا راجيف غاندي ولا المهاتما غاندي، بل قتلهم أتباع ديانات أخرى تمجد العنف أيضا. في الهند، الرجال السيخ لا يحق لهم كشف رؤوسهم وليس النساء فقط.
حبذا لو استخدمت شيري جرأتها في انتقاد أوضاع الإنسان في الهند، بمعزل عن دينه وثقافته، حتى لا يأتي من يقول لها كما قالت ذات يوم للإسرائيليين: إننا نتفهم أن يقدم شباب مسلمون غاضبون محبطون على تفجير أنفسهم في قطارات لندن... ثم يعتذر!
لتعتذر شيري، مع أنني متأكد أن سفارة عربية أو إسلامية لن تحتج في لندن، والخشية من احتجاجات لا تقبل بالاعتذار أصلا.
